‏إظهار الرسائل ذات التسميات في الرواية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات في الرواية. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، 14 أغسطس 2015

سوق النساء أو صزب 26

رواية د.جمال بوطيب ((سوق النساء أو ص.ب 26)) تحتاج إلى التوقف عندها في أكثر من موقف، فهي رواية ذات بناء فتي معقد وغير مألوف وغير قابل للتكرار، وهي تعرض نموذجا جيدا لوضع البناء الفني أو الشكل على وجه الدقة في خدمة الموضوع.
وأول ما ينبغي للقارئ التفكير فيه بعد انتهائه من القراءة عنوان الرواية، فهو مفتاح مهم لفهمها، فقد نستطيع فهم عبارة (سوق النساء) على إنها إشارة إلى مجموعة النساء اللواتي يظهرن في الرواية بائعة هوى أو باحثات عن المتعة الآنية، لكن (ص.ب 26) عبارة غير موجودة في متن الرواية على الإطلاق، فماذا أراد بها المؤلف؟ وفي رأينا تمثل هذه العبارة مفتاحا مهما لفهم بنية الرواية كما سنبين.
تسرد الرواية حكاية حبيبين هما (عبد الرحيم دباشي) و(لبانة الربيعي)، حكاية تختلط فيها الآلام واللذائذ تنتهي بأن تهجر لبانة حبيبها إلى غير رجعة، والحكاية تسرد من زوايا نظر مختلفة في ثمانية فصول، فمرة يأخذ عبد الرحيم زمام السرد ومرة لبانة وأخرى صديق مشترك للحبيبين.
غير أن الروائي اختار أن يسمي فصول الرواية تسميات غريبة، فالفصل الأول اسمه (الفصل العاشر- رأس الخيط)، والفصل الثاني هو (الفصل الثامن – خيط الرأس).. وهكذا، ولكي نتمكن من تحليل بنية الرواية سنحتاج إلى تقديمها بشكل الجدول الآتي:
تسلسل الفصل
عنوانه
الراوي
فكرته
ملاحظات
1
الفصل العاشر رأس الخيط
عبد الرحيم
يحكي القصة ابتداء من نهايتها ويعبر عن  آلام الفراق

2
الفصل الثامن خيط الرأس
عبد الرحيم
يحكي بداية قصته مع لبانة
المكالمة الهاتفية الأولى بينهما  كما تروى من وجهة نظره مهمة لفهم العلاقة
3
الفصل الأول باب الريح
لبانة
تحكي بداية القصة من وجهة نظرها
المكالمة الهاتفية الأولى كما تروى من وجهة نظرها مهمة
4
الفصل الخامس ميثاق العشرة
عبد الرحيم
عبد الرحيم يتحدث عن مشاركته السكن مع  صديق أيام الدراسة
هناك حديث طويل عن قميص نوم (منامة) للبانة مهم لفهم غبد الرحيم
5
الفصل السابع ريح الباب
لبانة
تتحدث عن أسباب انتهاء علاقتهما وتعبر عن اصرارها على ذلك هربا من الشك
من المؤكد أن هناك خطأ مطبعي هنا والفصل كما نظن هو الفصل التاسع لا السابع
6
الفصل الثالث دار الضمانة
عبد الرحيم
عبد الرحيم في تونس محاولا الهرب من لبانة
لبانة غائبة تماما في هذا الفصل الذي يتحدث عن حالة البطالة في المغارب
7
لفصل الثامن الريق
عبد الرحيم
يحكي حكاية امرأة أخرى (أسماء) يضعها مقابلا للبانة فهي النسخة المضادة (الطاهرة)

8
الفصل السابع قدري
صديق مشترك
يكشف عن زيف العلاقة بين الاثنين وقيامها على اللذة الجنسية ليس الا
لم يفصح عن اسمه ولا هما فعلا والأرجح انه الشخص الذي عرفهما ببعضهما وسمته لبانة  (صديق مشترك)
وربما يكون اسمه (قدري) كما قال


وفي آخر الرواية هناك عبارة مهمة مستقلة بعد الفصل الأخير، هي:
((تنبيه من السارد:
المرجو عدم التعجل في إصدار أي حكم أو ابداء أي تعاطف مع عبد الرحيم دباشي أو لبانة الربيعي قبل قراءة الفصلين الرابع والسادس.))
وهذان الفصلان ليس لهما وجود في الرواية، وهذا أيضا يحتاج إلى تفسير.
عند تدقيق النظر في لغة الرواية نتوصل إلى أنها مكتوبة بلغة الرسائل، ففي كل فصل هناك متحدث يوجه خطابه إلى شخص معين، وأن يكون كل فصل عبارة عن رسالة، هذا أمر له علاقة بالعنوان (ص.ب 26) الذي سيفسر لنا هذا الارباك في ارقام الفصول، فكأن القارئ يعثر على هذه الرسائل في صندوق بريد ثم يبدأ قراءتها واحدة واحدة من غير ترتيب.
في الرواية عدد من الظواهر التي تجب الإشارة إليها:
  1. إن الرواية تحكي حكاية عبد الرحيم (لا عبد الرحيم ولبانة)، فهو بطلها الذي تظهر كل جوانب حياته منذ طفولته حتى لحظة انهياره. ومن زوايا نظر مختلفة، ووجود لبانة ليس الا لإضاءة شخصيته من طرف خارجي حميم.
  2. عبد الرحيم شخصية عصابية مصاب بالفتيشية التي تظهر في تعلقه بمنامة لبانة ومما رسته الجنسية المتنوعة باستخدامها ثم الانتقام من لبانة بتحويل منامتها إلى خرق لمسح الاحذي.
  3. يحاول الكاتب إكساب روايته صفة قومية من خلال استخدام لهجات عربية مختلفة.
  4. الرؤية السياسية هي الثيمة الرئيسة في الرواية، فهي في النهاية ترمي إلى فضح عجز النظام السياسي العربي الذي أدى إلى التخلف الثقافي والتجهيل المتعمد.
  5. تعتمد الرواية كثيرا على الفولكلور المغاربي فهي مليئة بالأمثال والأغاني والزجل والشخصيات والأساطير الشعبية.


لقد نجح الكتاب في خلق أسلوب متميز لكل شخصية، فأسلوب عبد الرحيم يمتاز بالاستطرادات الكثيرة ومحاولة الظهور بمظهر الضحية المتعقل الذي يعرف قدر نفسه ويعاني من ظلم من حوله له، ولبانة كتبت بلغة المرأة الحانقة التي وصلت إلى أقصى درجات الملل من عشيق لا يثق بها، والصديق المشترك كتب بأسلوب من يشعر بالذنب إزاء مأساة تحدث تحت عينيه.
واذا كانت شخصية عبد الرحيم هي الشخصية الرئيسة التي تحت مجهر السرد، فإن بإمكاننا أن نخمن أنه مثقف يعمل في مجال ثقفي، صحفي على الأرجح، نظرا لمعرفته الكبيرة بالوسط الثقافي وطبيعة لغته وعنايته بدقة التعبير، هذه الصفة الأخيرة التي لا حظتها لبانة منذ اللحظة الأولى لمعرفتهما وحاولت تقليدها، حتى في عناوين فصولها، فحين يسمي عبد الرحيم الفصلين الذين يحكي فيهما حكايته مع لبانة (رأس الخيط) و(خيط الرأس) للتعبير عن الحكاية كاملة، تسمي لبانة فصليها (باب الريح) و(ريح الباب) تقليدا له، ليكون يوم تعرفها به الباب الذي تأتي منه الريح، ويكون هو الريح المزعجة التي تأتي من ذلك الباب، وتكون النتيجة (الباب الذي تأتيك منه الريح أغلقه واسترح).
في شهر واحد قرأت روايتين تجتمعان في الثيمة النهائية، الأولى رواية (زينة) للروائي المصري السيد حنفي، والثانية هذه الرواية، فكلا الروايتين تحاولان هزّ عقائدنا والتعبير عن الشعور بالضياع وضياع الحقيقة وفقدان السيطرة على الوجود.
لا شيء حقيقي أبدا في هذه الرواية، فكل شخصياتها كذابة تحاول تبرير مواقفها والتنصل من أية مسؤولية، كل الشخصيات تحاول الظهور بمظهر الصادق البريء المظلوم الشريف، لكنهم جميعا – إذا نظرنا لهم نظرة خارجية- مسلوبين منتهكين مسحوقين يكذبون على أنفسهم قبل أن يكذبوا على القارئ، فيتوهموا أنهم أحرار في قراراتهم.
(سوق النساء) تعبير عن الواقع العربي المؤلم، وهي –في الحقيقة- سوق النساء والرجال على حد سواء حيث يتحول الإنسان إلى سلعة بخسة وبائرة.




(أرابيسك) لعلي عبد الأمير صالح - لعبة التخفي


حين يتطابق الراوي وبطل الرواية، فيُعرض تيار السرد بضمير ((أنا))، فسنكون نحن القراء قد وقعنا في أسر أفكاره وتصوراته، لأننا سنرى الكون برؤيته هو وبعينيه، وهنا يكون علينا توخي الحذر وعدم التسليم بكل ما يقول البطل، إذ – لكي نفهم رواية من هذا النوع- علينا أن نكون متشككين كما لو كنا قضاة.

وهكذا يلعب (علي عبد الأمير صالح) معنا هذه اللعبة في روايته (أرابيسك) – صدرت عن دار أزمنة 2009، فالبطل، وهو ذاته الراوي، شخصية لا يمكن الوثوق بها، وما لم نشك بكل ما يقول لن نستطيع فهم بنية الرواية وجمالياتها.

تحكي الرواية حكاية طبيب أسنان عراقي مشبوه السيرة بسبب علاقاته الشاذة الكثيرة بالنساء ممن يترددن على عيادته، والرواية مبنية بما يشبه كتابة المذكرات، فهو في خمسينات عمره يحاول تسجيل أمجاده وفتوحاته النسائية، معربا عن رغبته في نشرها:

((...نعم أنا أكتشفها ثانيةً ، لأن بعضها ضاع في تلافيف مخي .. لكنها لم تضع إلى الأبد ، على أي حال.. هو ذا قلمي الرصاص يوقظها من سباتها، ويسطرها على الورق.. وها أنا ذا أجمعها لكم على ما فيها من تناقض وتباعد وتنافر وتشظي ..))

وإذا صدقنا بطل الرواية بكل ما يقول فسنؤمن بوجود رجل أسطورة قادر على إغواء كل نساء العالم في وقت واحد، فهو يحاول أن يعرض في مذكراته كل نماذج شخصيات المرأة الممكنة (شذا وياسمين وبان وداليدا وسوزان وغيرهن) اللائي سقطن كلهن أسيرات الهيام به وسلمنه أنفسهن متوسلات أن يفعل بهن ما يريد.

غير أن لغة الرجل تكشف عن حقيقة شخصيته، فهو رجل انطوائي يحب الاعتزال عن الناس والحياة في عالم خاص يكشف عن انسحابه من المجتمع وتبرمه به، فهو في غير موضع من مذكراته يشير إلى حبه لمدينته ومواطنيه:

((...أبذل قصارى جهودي كي أنجز عملي بإتقان ومهارة وأحقق سمعةً طيبةً بين الناس في مدينتي...))

وفي موضع آخر

((..بل أريد أن أعيش حياتي بالطول والعرض.. وأن أشارك أبناء مدينتي حياتهم ، أفراحهم وأحزانهم .. لأنني جزء منهم وهم جزء مني.. الناس جميعاً مرتبطون مع بعضهم بنحو لا ينفصل....))

غير أننا في كل مذكراته لم نقرأ عن أية شخصية من أبناء مدينته، ولم نلحظ مشاركته في أية فعالية اجتماعية، فالرجل لم يعش حياته التي تحدث عنها الا في مكانين، العيادة والشقة التي يسكنها. ويبدو أنه كان يهرب من المجتمع بسبب سوء سمعته الاجتماعية، الذي يتضح من عبارات عرضية وردت في الرواية:

((..ذلك أن بعضهن يترددن كثيراً قبل المجيء الى عيادتي مع إنني كنت ذا سمعة طيبة بين أبناء مدينتي .. أنا أقصد تحديداً السمعة الطبية ولا شيء غير ذلك...))

وفي موضع آخر يكشف عن أزمته تلك صراحة:

((أنا بريء كل البراءة من كل الأقاويل والشائعات التي لاكتها الألسن بحقي، وهي كثيرة على كل حال؛ مع إنني لا انفي كوني قد أعجبت بالعديد منهن...))

فمن الواضح هنا، أنه كان يشعر بهزيمته أمام الرأي العام في مدينته، الأمر الذي فرض عليه العزلة عن الناس، بل حتى وصوله إلى حافة العقد السادس وهو لما يتزوج بعد، ويعيش عازبا في شقة طالما صارت محل شبهة لسكان العمارة.

يرسم (علي عبد الأمير صالح) في هذه الرواية شخصية مأزومة، لكن بريشتها هي، وأي إنسان طبعا لا يحب الكشف عن أزماته ومساوئه، أو في الغالب لا يعترف بها حتى لنفسه، وهكذا يكون على القارئ أن يلزم جانب الحذر ويحاكم لغة البطل محاكمة صارمة، فثمة مواقف تكشف كذبه وزيف ادعاءاته الراسبوتينية، ومن تلك المواقف موقفه مع (ياسمين) لاعبة التنس التي قال أنها وصلت في عشقه حد أن جثت على ركبتيها بين يديه متوسلة أن يطفئ نار عشقها مقابل أن تهبه ثروتها الطائلة التي ورثتها عن أهلها.. فبعد هذا الموقف:

((قاطعتني ياسمين قائلةً :  عجباً ، أنت تتحدث كما لو كنت شاعراً .. هل تكتب الشعر؟

أجبتها باسماً:  لا أدري .. ربما .. لئن كان ما أكتبه شعراً فإنني لا أدونه إلا من أجل الفاتنات..أنا اكتب لهن أرق الكلمات على ورق الوصفات الطبية .. أنا أنتقي كلماتي كما ينتقي الصائغ أحجاره الكريمة ، أداعب الكلمات كما يداعب الموسيقي أوتار آلته .))

ليس من المعقول طبعا أن يقول هذا الكلام رجل يدعي أنه خبير في التعامل مع النساء في حضرة امرأة فاتنة يدعي أنها تذوب فيه عشقا. والمشكلة الأكبر رد فعل ياسمين على هذا الكلام، فهي لم تغضب ولم تشعر بالغيرة بل اكتفت بالقول بلغة طبيعية ليس فيها أي انفعال:

(( هذا كلام رائع .. لم أسمع مثيلا له من قبل ..))

هذا الموقف يكشف عن كذب ادعاءاته ومثله مواقف أخرى كثيرة، وهذا الكذب ليس الا نتيجة طبيعية لمجموعة من العقد النفسية والضغوط المركبة التي يعاني منها، فهو ليس شخصية سوية، وأبرز تلك العقد، الفتيشية التي كشف عنها بوضوح بتعلقه بمشابك الشعر ومرايا الفم التي كان يمارس  معها لذته الحقيقية:

((أنا ، عادةً ، أحتفظ بمرايا العذارى في حقيبة خاصة ، حقيبة جلدية خصصت أصلا لحفظ أدوات منزلية صغيرة كالملاعق والشوكات .. كنت أضع رمزاً أو رقماً بالقلم (الماجك) على كل مرآة أستخدمها في فم كل عذراء من العذراوات ..))

لقد وصف بإسهاب علاقته بتلك المرايا، وكيف كان يصفّها على منضدة ثم يتعامل معها كما لو كانت هي النساء الحقيقيات، فيحدثها ويضمها ويقبلها، وربما كانت هذه هي التجربة الحقيقية الوحيدة التي يعيش فيها اللذة.

وفي آخر الرواية يكشف طبيب الأسنان عن حادثة مهمة في طفولته، ففي المرة الأولى التي يلتقي بها سوزان آخر خليلاته كما يسميها، قال:

((حكيت لها عن قسوة أبي .. قلت لها إن أبي كان يضرب أمي ضرباً مبرحاً إن هي تباطأت في تلبية طلباته .. وظلت تحمل أثر الجرح البليغ في ذقنها .. أمي لم تذهب الى المستشفى أو المستوصف، كما كان يدعى آنذاك .. بل وضعت قطعة قماش متفحمة على الجرح....))

هذه الحادثة تكشف عن مكمن عقدة الرجل ومشاكله النفسية، فهو يحب النساء بحبه لأمه وتعاطفه معها، لكنه أيضا يحسدهن لما يمتلكن من قدرة على السعادة ويريد الانتقام منهن لأمه، أمه التي عاشت مقيدة بسلطة الزوج التقليدي الذي يريدها خادمة مطيعة طيلة الوقت، وهذا وحده يفسر ظاهرة مهمة في الرواية، هي أن كل شخصيات النساء التي أسهب في الحديث عنها، كانت شخصيات متحررة، تفعل ما تريد من غير سلطة قامعة توقفهن عن تلك الأفعال، وهن بهذا يستأهلن الانتقام، فلماذا يعشن هذه الحرية وتحرم أمه منها؟ ولهذا أيضا وضع لهن نهايات مأساوية، فشذا تجن وبان تنتحر وأخريات يتشردن في بلاد الله ويختفين من الحياة.

هذه الرواية تمثل دراسة نفسية تفصيلية لشخصية مأزومة، اختار الروائي أن يكتبها بطريقة التداعي الحر، فلم يكن البطل قد خطط بدقة لما سيكتب في مذكراته، ولذلك جاءت لغته مليئة بالاستطرادات الطويلة والجمل الاعتراضية، التي تمثل مادة غنية للمحلل النفساني لتحديد ملامح الشخصية، وبسبب توظيف أسلوب التداعي الحر كان لابد أن تكشف مذكرات البطل عن عقده، التي ليس آخرها خوفه من المجتمع والرأي العام الذي بدا في ظاهرة أخرى واضحا هي امتناع طبيب الأسنان عن ذكر اسمه رغم أنه ذكر أسماء كل الشخصيات التي وردت في مذكراته.

 

الخميس، 13 أغسطس 2015

الموتى لا يرتدون الأحذية


ببراعة مذهلة تمكنت الشاعرة المصرية (وفاء بغدادي)، في أول تجربة روائية لها (الموتى لا يرتدون الأحذية) الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة 2011، تمكنت من نقل صورة المجتمع كما يراها ذوو الاحتياجات الخاصة. فالرواية تحكي حكاية فتاة مصابة بشلل الأطفال منذ الأشهر الأولى في حياتها عبر تقنية مبتكرة في السرد.

تقع الرواية في خمس عشرة وحدة سردية سمتها الروائية (أيادي)، تبدأ من (اليد الأولى) وتنتهي عند (اليد الأخيرة). وفي كل يد من هذه الأيادي نجد أنفسنا أمام تجربة مؤلمة أخرى من تجارب البطلة عبر راوٍ غريب هو كرسي المعاقين الذي أنطقته الروائية ليسرد حكاية بطلتها من خلال وضع أيادي الناس الذين يدفعونه في بؤرة السرد:

((أياد كثيرة تتلمسني كل يوم، تحركني كيفما تشاء، تبعثرني في اتجاهات لا أرغبها، وأخرى أريدها، بعض من تلك الأيادي لها تحنان غريب يشبه يشبه حنو الأم على ولدها...... بعد لحظات أياد أخرى تتمنى لو تلقي بي بعيدا يبتلعني الشارع....))

تصور الرواية معاناة البطلة التي لا نعرف اسمها على امتداد الرواية، بأسلوب يجبرك على الشعور بالألم والغثيان:

((مائة وتسعة هذا ليس رقم شارع... ليس برقم منزل ... إنما هو عدد درجات السلم التي تهبط عليها وتصعدها كل يوم لفترة طويلة..))

في الذهاب إلى المدرسة يحملها والدها وفي العودة والدتها غير أنها عندما كبرت لم يعد بالإمكان فعل ذلك:

((... بعد فترة من الخوف ليست طويلة أخذت تلقي بنفسها كالكرة على درجات السلم بعد أن تكون فعلت نفس الشيء مع تلك العكاكيز التي تستند عليها.))

لكن هذا لا يمكن أن تفعله في رحلة العودة التي كانت فيها مضطرة لقضاء أكثر من ساعتين من المعاناة لصعود السلم:

((دائما رحلة العودة أصعب... في يدها قفاز جلدي يحميها من البصاق وفضلات القطط التي لعبت دورا كبيرا في أن تعيد الصعود أكثر من مرة.. تبدأ بوضع قدمها اليمنى على أول درجات السلم بمساعدة يدها اليمنى ثم تستند بكلتا يديها على الدرجة التالية وتجر القدم الأخرى وهكذا إلى أن تنتهي، تصر درجات السلم على مصافحة شعرها على الرغم من تلك الشرائط التي تقيده في شكل ضفيرتين تعقدهما أمها من أسفل حتى لا يتسخا من السلم (يحزنها هذا كثيرا) لكنها لا تجرؤ أبدا على البوح به....))

وعلى امتداد النص تظهر شخصيات كثيرة من غير أن نعرف عنها سوى نظرة البطلة إليه، فترسم صورة جلية للمجتمع كما هو في عين البطلة، كلمة قد يقولها عابر وهو لا يعلم ماذا تخلف في نفسها:

((في إحدى المرات أوقفها ضابط مرور لمخالفتها وضع الحزام، حين أشارت إلى العلامة على زجاج السيارة ردد مبتسما:

الحلو ميكملش.))

ومرة أوقفت سيارتها أمام باب المستشفى وحين  فأراد الضابط سحب رخصتها غير أنه اعتذر وانسحب عندما عرف حالتها لكن أحدهم يعترض لسحب رخصته هو وترك رخصتها ((رد عليه الضابط بصوت سمعه كل المارة:

دي عاجزة يا أعمى.))

وفي أحيان أخرى تتزامن الكلمة مع دفعة من القسوة المؤلمة، كما في صورة ذلك الرجل الذي اعتادت أن يصلح لها (الجهاز التعويضي) عندما يصيبه الخلل، ((آخر المرات التي عاتبته فيها على التأخير ثار في وجهها ورد عليها بوقاحة يعهدها منه كل المتعاملين معه:

هو أنا معنديش عاجزين غيرك))

وحين ترى البطلة طفلة تشبهها في مركز العلاج الطبيعي وتنتبه إلى مكابرتها ((تمنت أن تحتضن تلك الفتاة، تحدثها أن الحزن حق مكفول للجميع، ترجوها أن لا تكرر نفس الخطأ، لا داعي لإظهار قوة ليست موجودة بالفعل.))

تحاول البطلة على لسان الكرسي المتحرك أن تُسقِط تلك الأقنعة التي يضعها بعض الناس ليصنعوا لأنفسهم هالة كاذبة.. كما تصف أولئك (المثقفين) الذين استقلت معهم (الأوتوبيس) عند دعوتها إلى معرض الكتاب:

((في الطريق يتحدثون عن البنية الأساسية والنقد والفن التشكيلي والإيديولوجيا وأشياء من هذا القبيل حين يتحدثون عن التراث يلوون ألسنتهم بلغة أجنبية تعكس دوشة بداخلهم وهذا العصر المتخبط الذي يعيشونه.))

تثير الرواية واحدة من المشكلات الفنية التي نواجهها في أعمال أدبية كثيرة اليوم، هي مشكلة التجنيس. فقد تعاملنا مع النص على أنه رواية لأن الكاتبة وضعت لها هذا التصنيف على الغلاف. بينما يوصلنا تشريح النص إلى أنه نص عصي على التجنيس والتصنيف. فكل وحدة سردية من وحداتها يمكن أن تكون قصة قصيرة قائمة برأسها، ولأن كلا منها تتحدث عن ذات الشخصية وعلى لسان الراوي ذاته يمكن أن ننظر إلى العمل على أنه متوالية قصصية. بينما تستوقفنا تلك اللغة الأقرب إلى لغة البوح الشعري عن مثل هذا التصنيف بما فيها من انزياحات وغلبة للجملة الإنشائية على الجملة الخبرية فيها. فضلا عن أن جمل الاستفهام والجمل المنفية التي تغلب على العمل ابتداء من العنوان تجعل النص صرخة احتجاج عالية في وجه مجتمع بليد عاجز عن فهم بطلة الرواية.

وحين يفرغ القارئ من قراءة النص يجد نفسه يعرف تاريخ البطلة الباطني والظاهري، وربما يشعر بالذنب لأنه يستطيع المشي على قدمين. غير أنه لو عاد إلى النص مرة أخرى لاستغرب تلك النتيجة، فليس هناك من خط زمني واضح يعرض فيه ذلك التاريخ. إذ أن تلك الوحدات السردية كانت تهشم زمن السرد كما لو كانت تريد تدميره فعلا. (اليد الأولى) و(اليد الأخيرة) فقط يمكن أن نفهم مكان وجودهما في النص، فالأولى ولادة والأخيرة موت. أما ما بقي من الوحدات فيمكنك أن تغير أماكنها كيفما تريد من غير أن تتأثر الحكاية، فقط صحح رقم (اليد). وهكذا بنيت الرواية بما يشبه (المسبحة)، لكل (خرزة) منها تسلسل محدد، لكنها لو انفرطت ونظمت من جديد فمن المؤكد أن تسلسل (الخرزات) سيتغير، بينما هناك (خرزة) واحدة لابد أن تكون في مكانها السابق وهي (الخرزة) الطولية التي تحدد بداية المسبحة ونهايتها.

كل وحدة سردية في الرواية يتصرف فيها السارد بحرية مطلقة، ويتنقل في الأزمنة والأمكنة بتداع حر تماما. فقد يروي حدثا جرى للبطلة في شبابها ثم يربطه بحدث آخر في طفولتها.

كُتِب النص كله بلغة يمكن أن توصف بأنها شفاهية، فالسارد يحدث القارئ وكأنه في مواجهته مستخدما لغة (الكلام) لا لغة الكتابة، فتراه يستدرك ويتراجع ويصحح وكثيرا ما تشير نقاط متتالية تفصل بين الكلمات إلى مدة صمت:

((تحدثني عن أيوب .. يأتيها كل يوم يأخذها منيالى عالم تحب البقاء فيه، تعود إلي منه راضية مرضية أغار منه لكنه في النهاية ينجح في أن أحبه لأنه يجعلها سعيدة أو ربما ...... الاستسلام (لا أعلم).))

وقد يبدو عنوان النص قبل قراءة الكتاب بلا معنى، فمن الطبيعي أن (الموتى لا يرتدون الأحذية)، العنوان هو الآخر تركيب شفاهي، فلا يمكن أن تدرك إحالاته إلا إذا قرأته وأنت تشدد على كلمة (الموتى)، فهو ليس جملة خبرية، بل جملة قصر وحصر، فكأن معناه هو (الموتى فقط لا يلبسون الأحذية) . وهذه الدلالة تحيل على موضعين في الرواية، فأما أولهما ففي منتصفها بالضبط، يقول الكرسي المتحرك الذي يسرد الرواية:

((بداخلها مرآة لا ترى إلا عجلاتي، الناس ينظرون إلي وكأني خلقت لحمل الموتى فيحملون لي كراهية وهي تراني أحمل الموتى للحياة فتحب أوردتي المعدنية وتبثني حياة.))

ولا فرق كبير هنا بين نظرتها ونظرة الناس، فالاثنان اتفقا على أن (المعاق) ميت.

وأما الموضع الثاني الذي يحيل عليه العنوان فيصادفنا قرب النهاية:

((لم تر نفسها أبدا تسير على قدمين، حتى في أحلام اليقظة.

لم تر نفسها ترتدي حذاء أنيقا.

كثيرا ما تقف أمام محلات الأحذية لتنتقي أجملها لصديقاتها.

هي فقط لم تشتر أيا منها.))

 

هكذا يكون العنوان مفهوما، فلأنها لا تحتاج أن تضع حذاء في قدميها فهي ميتة. وهنا تكمن المفارقة في قلب ركني جملة العنوان ليكون المبتدأ خبرا والخبر مبتدأ؛ الذين لا يرتدون الأحذية أموات.

رواية (وفاء بغدادي) تجمع إلى كونها نص يحتفي باللغة اعتمادا على تقنيات متقدمة، كونه عمل إنساني صادم، يستفز إنسانية القارئ ويجبره على مراجعة بناء ذاته.